“أنا هنا. تنطوي هاتان الكلمتان على كلّ ما يمكن قوله، فأنتَ تبدأ
بهاتين الكلمتين وتعود إليهما. و’هنا’ تعني على هذه الأرض، على هذه القارة، لا
قارة أخرى، في هذه المدينة، لا مدينة أخرى، وأنا أدعو هذا العصر عصري أنا، بل وهذا
القرن وهذه السنة. فلم أُمنح مكاناً غير هذا المكان، ولا زمناً غير هذا الزمن.
وألمس طاولة مكتبي كي أدفع عن نفسي ذلك الشعور بأنّ جسدي مصيره الفناء. وهذا الأمر
في حد ذاته جوهري، لكن بالرغم من ذلك، فإن علم الحياة يعتمد على الاكتشاف التدريجي
للحقائق الأساسية”.
تشيسواف
ميوش
يتناول
الشاعر الزمن وهو ينسلّ من بين أصابعه قطرة فقطرة، ثم يتبخّر حتى يصبح عدماً. في
إحدى قصائده الغزلية، يقول غالب وهو من الشعراء المهمين الذين يكتبون بالأردية في
القرن 19 واشتهر بشعر الغول “إن القطرة التي لا تصير نهراً تتشرّبها الرمال”.
ومرة
تلو المرة، عندما أكتب، أكتشف أنني لا أتذكّر الماضي ذاته، كما لا أتذكّر شخصاً أو
مكاناً أو مشهداً أو صوتاً أو أغنية بعينها، إنما أتذكّر أولاً وقبل كل شيء،
كلمات. الكلمات وصداها الذي يتردد في ذاكرتي. الكلمات التي تقبع في ذاكرة معينة،
تحمل أصداء زمن ومكان محدّدين. لكن المشكلة بالنسبة إلى الشاعر، ليست في الأساس
مشكلة مفردات، إنما كيف يستطيع الشاعر تناول المفردات القديمة وصوغها في سياقات
جديدة، في تراكيب مُبتَدعة تتحدّث عن حاضرنا وتلقي الضوء على ما يجري حالياً. لذلك
فإن وظيفة الذاكرة ليست بسيطة: إذ لا يتعين على الشاعر أن يعرف الكلمات ومعانيها فحسب،
إنما عليه أيضاً أن ينسى السياقات الكامنة فيها.
بمحض
إرادتي أم رغماً عني، فأنا لا أتوقف عن الذهاب إلى الماضي والعودة منه. إن الشعر
وسيلة عظيمة للتنقيب في المناطق المخفية عن الحياة التي عاشها الشاعر، وفي المناطق
الظليلة التي تقبع فيها اكتشافات لا حصر لها بانتظارك، كلّ تلك الأشياء التي
كوّنتك وجعلتك من أنت، والأماكن والأزمنة والظروف التي عشت فيها، جميع الأشياء
التي شكّلتك. لذلك، فإن عملية العودة إلى الذاكرة أمر في غاية الأهمية بالنسبة
إليّ، العودة إلى تلك التفاصيل التي لا تقبع في رأس أحد سواي. إذن، فإن الطفولة
تشكّل مصدراً سحرياً يكمن بين الظلّ والضوء، يثوي عميقاً في الماضي، يمكن استدعاؤه
دائماً وإلباسه ظلالاً جديدة قد لا تكون موجودة إلاّ في عالم الأحلام.
وسط
الصحراء
ولدتُ
في بلدة صغيرة تدعى “الحبانية” في وسط صحراء لم يكن يعيش فيها إلاّ البدو والماعز.
لذلك كان للبحيرة الاصطناعية التي شيدت حولها البلدة تأثير كبير على حياة السكّان
الذين جلّهم من الآشوريين الذين جلبهم البريطانيون إلى هذه المنطقة بعد أن ذُبحت
عائلاتهم وطُردوا من ديارها، في البداية على يد الأتراك العثمانيين والأكراد في
عام 1915، ثم على يد الجيش العراقي والأكراد من شمال العراق عام 1933. وأصبحت
الحبانية قاعدة عسكرية جوية بريطانية، عمل فيها أبي، شأن معظم الآشوريين الآخرين
الذين تم تجنّيدهم في الجيش البريطاني بالإضافة إلى الهنود من طائفة السيخ الذين
كنا مأخوذين بلحاهم وعمائمهم المفتولة.
ومن
أولى الذكريات العزيزة التي لا تبارحني هي عندما أخذني أبي معه إلى مكان عمله في
القاعدة التي لم يكن يوجد فيها إلاّ الإنكليز، وكانت محاطة بسياج ضخم. في تلك
الزيارة رأيت لأول مرة نساء إنكليزيات يحتسين الشاي، وكنّ شبه عاريات يجلسن بين
الأزهار والمروج الجميلة المعتنى بها، يكسو النمش وجوه بعضهن مثل البطيخ الأصفر أو
الأفاعي. كنّ نوعاً مختلفاً كلّ الاختلاف عن نوع الأنثى الذي تنتمي إليه أمهاتنا
وأخواتنا اللواتي كنّ يتلفّعن بالسواد معظم الأحيان كأنهن عدن لتوهنّ من مأتم أو
جنازة. كان ذلك أشبه بالانسلال عبر ثقب في جدار الجنة، لتجد نفسك في عالم آخر.
الوصول
إلى كركوك
بعد
فترة من الزمن غادرنا الحبانية وانتقلنا إلى كركوك، المدينة التي تقبع في شمال
البلد والتي لم يكن يوجد فيها ماء تقريباً، سوى نهر صغير يظل جافاً طوال تسعة أشهر
في السنة، ثمّ تفيض ضفتاه فجأة، ويُغرِق ماؤه المواشي والخيول بالإضافة إلى عدد من
الأهالي. وقد ظلت ذكرى هذه الظاهرة محفورة في ذاكرتي إلى حد أنني أعربت عنها بعد
حوالي ثلاثين سنة في قصيدة بعنوان “شهود على الشاطئ” كتبتها في سان فرانسيسكو وهي
موجودة في هذا الديوان. إذن كان الانتقال من الحدائق الوارفة التي تحتسي فيها
السيدات الإنكليزيات الشاي إلى مدينة جافّة تكسوها تربة صخرية، لكنها تعبق برائحة
البترول وألسنة اللهب التي تنطلق من حقول شركة نفط العراق ليل نهار. وكان الناس
يسيرون بمحاذاة تلك الحقول يستنيرون بضوئه في منتصف الليل كأنهم يسيرون أثناء
النهار. كان ذلك أشبه برحلات جوليفر بالنسبة إلى صبي صغير.
كان
النفط ينتشر في كل مكان، وكان جميع السكان تقريباً يعملون في الشركة (التي يديرها
بالطبع البريطانيون الأبديون). وكان جلّ السكان الذين يعيشون في هذه المدينة من
التركمان الذين كان يعيش العديد منهم في قلعة قديمة يلفّها الغموض، كأنك تواجه
التاريخ هناك كلّ يوم. إن التاريخ الآشوري والأرمني والتركماني والكردي والعربي متداخل
وقد صُبَّ في قالب واحد مثل برج بابل هائل. لذلك، فإني عندما أكتب قصائدي باللغة
العربية التي هي آشورية (آرامية وسريانية) بنسبة سبعين بالمئة، أشعر بأنني أردّد
كلّ هذه الأصوات، لأنني أعتقد بأنّ أيّ لغة تحتوي على جميع مسارب ذاكرة المجتمعات
التي ساهمت فيها. ولا يمكن أن يضيع أي شيء منها على الشاعر.
إن
الكاتب شاهد على عصره، وعليه أن يكون واعياً، في خضم كلّ هذه الفوضى والجنون،
والحروب والمذابح، وأن يكون مدركاً لتلك الأصوات الباهتة التي تحدّثنا عن الزمن
الماضي، عن حيوات أخرى مدفونة في بطن الحوت الذي يُطلق عليه التاريخ. ويعيش
الشعراء معظم حياتهم وهم ينتظرون شيئاً، حقيقة مخفية قد لا تتجلّى، إلاّ عندما
تنطلق فجأة حقيقة محددة أخرى وتسبب تفاعلاً ما. وقد يتمكن بعض الشعراء، المحظوظين
والعظماء خاصة، من نقل قصّة كاملة أحياناً في سطر واحد، أو في صورة، أو في قصيدة.
ولا يزال قول بول سيلان يفتنني ويحيرني كثيراً “إن حديثنا عن العدالة يظل خاوياً
إلى أن ترتطم أضخم سفينة حربية بجبهة رجل يغرق”. على نحو ما، فإن هذه العبارة
تعبّر عن كلّ شيء: استحالة أن نكون من نحن، وإمكانية أن نصبح ما نستطيع أن نكون.
لكل
كاتب بلدان
لقد
أصابت جيرترود شتاين عندما قالت “يجب أن يكون لدى كاتب بلدان اثنان، بلد ينتمي
إليه، وبلد يعيش فيه فعلاً. ويكون البلد الثاني رومانسياً، منفصلاً عنه، ليس
حقيقياً، لكنّه موجود حقاً.. وبالطبع يكتشف الناس أحياناً بلدهم كأنه هو البلد
الآخر. “لو كان هناك تعريف حقيقي للمنفى، فهذا هو. وأنا أقصد المنفى الأبدي، من
دون عاطفة الحنين إلى العودة (لأنه لا توجد عودة في واقع الحال “لا يمكنك أن تخوض
في النهر نفسه مرّتين”)، فعندما تصبح مهاجراً، مهاجراً أبدياً، لا يمكن عندها
استعادة ‘الجنة’ مطلقاً”.
تروى
حكاية تُنسب إلى الرومي، تقول “ذهب رجل إلى بيت الحبيب وقرع الباب، فتناهى إليه
صوت من الداخل يسأله ‘من بالباب؟’، فأجاب الرجل ‘أنا’؛ فقال الصوت ‘لا أظن أن هذا
البيت كبير بما يكفي ليسعنا نحن الاثنين’، وظل الباب مغلقاً. فعاد الرجل أدراجه
والحيرة والاضطراب يملآن قلبه، وراح يفكّر في تلك الكلمات، ويتأمّل في معانيها
الخفية. وبعد سنة من العيش في خلوة، حرم فيها نفسه من أبسط متع الحياة، قرّر
أخيراً أن يعود إلى بيت محبوبه وقرع الباب، فسأله نفس الصوت من الداخل ‘من
بالباب؟’، فأجاب الرجل ‘أنتَ’، فُفتح له الباب”. بالطبع، يتعيّن على الصوفي أن
يمرّ في سلسلة كاملة من التمارين الروحية الصارمة حتى يُفتح له الباب ويدخل إلى
بيت الحبيب الذي يدعوه الصوفيون الله.
مهمة
الشاعر
مهما
كان الأمر، فإن مهمّة الشاعر الذي لا تتجاوز أدواته الكلمات، مهمة مختلفة، إذ يظل
الباب موصداً دونه حتى ينجح، بالتفاني التام، في اختراق لغز اللغة نفسها. وبما أن
الفنّ طويل والحياة قصيرة، كما قال هوراس، فلم يتمكن أيّ شاعر بمفرده أن ينجز هذه
المهمّة الهائلة بالكامل، حتى أعظم الشعراء. إن ما يحدث هو أن كلّ شاعر، على مرّ
التاريخ، بوعي منه أم من دون وعي، يتابع العمل الذي حققه الشعراء الذين سبقوه، شيء
أشبه بقصيدة لانهائية تمتدّ حتى الخلود، أو إلى الأبد.
الشعراء
الجوالون
كتب
تشيسواف ميوش قصيدة تعبّر عن هذا الأمر تماماً، وهي تتحدث عن الشعراء الجوّالين
المدهشين على مرّ العصور، الذين يشكلون عادة فرقة من عدة أشخاص يختارون أسلوبهم،
وينحون إلى قول الحقيقة، عادة ما يكون ذلك بأسلوب خيالي، وأحياناً بطريقة طفولية.
ويتجنبهم المجتمع الذي يهاجمونه، وهم يقفون دائماً إلى جانب الضعفاء والمضطهدين،
ويمتدحون زهرة أو براءة طفل أو جمال امرأة. ومع أن الشعراء قد يطعنون منافساً لهم
في الظهر بدافع الغيرة والحسد، فقد كتب ميوش، أن أحدهم سيظل يترجم الآخر إلى لغته
لأنهم يعرفون أنهم يفعلون ذلك جميعاً. وفي النهاية، فهم الذين اختاروا بين “كمال
الحياة أو العمل”، كما ذكر ييتس في قصيدته “الاختيار”. وبنفس الأسلوب، كرّر بورخيس
في مقاله المعنون “وردة كوليردج” فكرة مشابهة بأن جميع الشعراء يسهبون في ذات
الملحمة القديمة، التي تشكّل كلّ قصيدة جزءاً منها.
لقد
أُعجبت كثيراً بقصيدة ميوش، ومن شدة إعجابي بها ترجمتها إلى اللغة العربية، ونُشرت
في إحدى الصحف العربية في لندن، عندما كان من المزمع أن يقدم الحائز على جائزة
نوبل قراءة في مهرجان لندن الدولي للشعر عام 1998. وقد أُعجب الشاعر العظيم بشكل
الأحرف العربية عندما أريته القصيدة، وسألني بحماسة شديدة ما هي تلك القصيدة، فقلت
إنها قصيدة “تقرير” التي كان من الواضح أنها موجّهة إلى الله، أو إلى كيان يدعى
“العَلِيّ”، فابتسم ميوش، وقال “نعم، بالطبع”. وأضاف “أتعرف، لقد بعثت إليه عدة
تقارير على مدى السنوات، لكنّه لم يجبني قط”. فلم أتمالك نفسي من القول للشاعر
العظيم “من يعرف، لعلّه سيفعل ذات يوم”. في ذلك الوقت، كان ميوش في السابعة
والثمانين من العمر، وكان لا يزال قويّ البنية ويقظاً بالنسبة إلى عمره. كان من
الرائع، وهذا أقل ما يمكن أن يقال، أن أقف في حضور هذا الشاعر العظيم. كان يوجد
هنا شاهد حقيقي على العصر، رجل عاصر الحرب والجنون ورأى حضارة كاملة تُدَّمر، ومن
خلال حبّه للشعر وشغفه به، عاش ليروي الحكاية.